الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
فصل:المشهد الحادي عشر: مشهد التوحيد وهو أجل المشاهد وأرفعها فإذا امتلأ قلبه بمحبة الله والإخلاص له ومعاملته وإيثار مرضاته والتقرب إليه وقرة العين به والإنس به واطمأن إليه وسكن إليه واشتاق إلى لقائه واتخذه وليا دون من سواه بحيث فوض إليه أموره كلها ورضي به وبأقضيته وفنى بحبه وخوفه ورجائه وذكره والتوكل عليه عن كل ما سواه: فإنه لا يبقى في قلبه متسع لشهود أذى الناس له ألبتة فضلا عن أن يشتغل قلبه وفكره وسره بتطلب الانتقام والمقابلة فهذا لا يكون إلا من قلب ليس فيه ما يغنيه عن ذلك ويعوضه منه فهو قلب جائع غير شبعان فإذا رأى أي طعام رآه هفت إليه نوازعه وانبعثت إليه دواعيه وأما من امتلأ قلبه بأعلى الأغذية وأشرفها: فإنه لا يلتفت إلى ما دونها وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم.فصل:وأما قوله: أن يستفيد بمعرفة أقدار الناس وجريان الأحكام عليهم:محبتهم له ونجاتهم به فلأنه إذا عاملهم بهذه المعاملة: من إقامة أعذارهم والعفو عنهم وترك مقابلتهم: استوت كراهتهم ومحبتهم له وكان ذلك سببا لنجاتهم الأخروية أيضا إذ يرشدهم ذلك إلى القبول منه وتلقي ما يأمرهم به وينهاهم عنه أحسن التلقي هذه طباع الناس.فصل:قال: الدرجة الثانية: تحسين خلقك مع الحق وتحسينه منك: أن تعلم أن كل ما يأتي منك يوجب عذرا وأن كل ما يأتي من الحق يوجب شكرا وأن لا ترى له من الوفاء بدا هذه الدرجة مبنية على قاعدتين إحداهما: أن تعلم أنك ناقص وكل ما يأتي من الناقص ناقص فهو يوجب اعتذاره منه لا محالة فعلى العبد أن يعتذر إلى ربه من كل ما يأتي به من خير وشر أما الشر: فظاهر وأما الخير: فيعتذر من نقصانه ولا يراه صالحا لربه فهو مع إحسانه معتذر في إحسانه ولذلك مدح الله أولياءه بالوجل منه مع إحسانهم بقوله: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ} [المؤمنون: 60] وقال النبي: هو الرجل يصوم ويتصدق ويخاف أن لا يقبل منه فإذا خاف فهو بالاعتذار أولى والحامل له على هذا الاعتذار أمران:أحدهما: شهود تقصيره ونقصانه.والثاني: صدق محبته فإن المحب الصادق يتقرب إلى محبوبه بغاية إمكانه وهو معتذر إليه مستحي منه: أن يواجهه بما واجهه به وهو يرى أن قدره فوقه وأجل منه وهذا مشاهد في محبة المخلوقين القاعدة الثانية: استعظام كل ما يصدر منه سبحانه إليك والاعتراف بأنه يوجب الشكر عليك وأنك عاجزة عن شكره ولا يتبين هذا إلا في المحبة الصادقة فإن المحب يستكثر من محبوبه كل ما يناله فإذا ذكره بشيء وأعطاه إياه: كان سروره بذكره له وتأهيله لعطائه: أعظم عنده من سروره بذلك العطاء بل يغيب بسروره بذكره له عن سروره بالعطية وإن كان المحب يسره ذكر محبوبه له وإن ناله بمساءة كما قال القائل:
فكيف إذا ناله محبوبه بمسرة وإن دقت فإنه لا يراها إلا جليلة خطيرة فكيف هذا مع الرب تعالى الذي لا يأتي أبدا إلا بالخير ويستحيل خلاف ذلك في حقه كما يستحيل عليه خلاف كماله وقد أفصح أعرف الخلق بربه عن هذا بقوله: والشر ليس إليك أي لا يضاف إليك ولا ينسب إليك ولا يصدر منك فإن أسماءه كلها حسنى وصفاته كلها كمال وأفعاله كلها فضل وعدل وحكمة ورحمة ومصلحة فبأي وجه ينسب الشر إليه سبحانه وتعالى فكل ما يأتي منه فله عليه الحمد والشكر وله فيه النعمة والفضل قوله: وأن لا يرى من الوفاء بدا يعني: أن معاملتك للحق سبحانه بمقتضى الاعتذار من كل ما منك والشكر على ما منه: عقد مع الله تعالى لازم لك أبدا لا ترى من الوفاء به بدا فليس ذلك بأمر عارض وحال يحول بل عقد لازم عليك الوفاء به إلى يوم القيامة.فصل:قال: الدرجة الثالثة: التخلق بتصفية الخلق ثم الصعود عن تفرقة. .تفسير الآية رقم (200): قوله تعالى: {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (200)}.مناسبة الآية لما قبلها: قال البقاعي:ولما كان الشيطان بعداوته لبني آدم مجتهدًا في التنفير من هذه المحاسن والترغيب في أضدادها، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد نزع منه حظ الشيطان بطرح تلك العلقة السوداء من قبله إذ شق جبرائيل عليه السلام صدره وغسل قلبه وقال: هذا حظ الشيطان منك؛ شرع لأمته ما يعصمهم منه عند نزغه مخاطبًا له بذلك ليكون أدعى لهم إلى القبول وأجدر باشتداد الخوف المقتضي للفرار المثمر للنجاة، لأنهم إذا علموا قصد الشيطان لمن نزع منه حظه وعصم من كل محنة علموا أنه لهم أشد قصدًا وأعظم كيدًا وصدًا، فقال مؤكدًا بأنواع التأكيد إشارة إلى شدة قصد الشيطان للفتنة وإفراطه في ذلك، ليبالغ في الحذر منه وإن كان قصده بذلك في محل الإنكار لعلمه بالعصمة- لذلك عبر بأداة الشك إشارة إلى ضعف كيده للنبي صلى الله عليه وسلم، لأن الله تعالى أعانه على قرينه فأسلم: {وإما} أي إن، وأكدت ب {ما} إثباتًا للمعنى ونفيًا لضده {ينزغنك} أي ينخسنك نخسًا عظيمًا {من الشيطان نزغ} أي نخس بوسوسته من شأنه أن يزعج فيسوق إلى خلاف ما تقدم من المحاسن في نحو غضب من جهل الجاهل وسفه السفيه أو إفراط في بعض أوجه كما تساق الدابة بما تنخس به، فيفسر ويجعل النخس ناخسًا إشارة إلى شدته {فاستعذ} أي فأوجد أو اطلب العوذ وهو الاعتصام {بالله} أي الذي له جميع العز والعظمة والقدرة والقهر لا نقطاعك عن الإخوان والأنصار إليه فلا ولي لك ولا ناصر إلا هو، فإنه إذا أراد إعاذتك ذكرك من عزيز نعمه وشديد نقمه ما يريد عن الفساد رغبًا ورهبًا، والآية ناظرة إلى قوله تعالى أولها: {لأقعدن لهم صراطك المستقيم} [الأعراف: 16].ولما أبطل تعالى أن يكون لشركائهم سمع أو علم، صار إثبات ذلك له كافيًا في اختصاصه به من غير حاجة إلى الحصر المتضمن لنفيه عن غيره لتقدمه صريحًا بخلاف ما في فصلت، فقال معللًا: {إنه سميع} أي بالغ السمع فهو يسمع استعاذتك فيجيبك إن شاء {عليم} شامل العلم بما تريد ويريد منك عدوك، فلا يعجزه شيء، وختم بصفة العلم في الموضعين لأن الوسوسة من باب ما يعلم، وختمها في سورة المؤمن بالبصير المشتق من البصر والبصيرة، لأن المستعاذ منه أمر الناس ومنه ما يبصر. اهـ..من أقوال المفسرين: .قال الفخر: {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (200)}.وفيه مسائل:المسألة الأولى:قال أبو زيد: لما نزل قوله تعالى: {وَأَعْرِض عَنِ الجاهلين} [الأعراف: 199] قال النبي صلى الله عليه وسلم: كيف يا رب والغضب؟ فنزل قوله: {وَإِمَّا يَنَزَغَنَّكَ}.المسألة الثانية:اعلم أن نزغ الشيطان، عبارة عن وساوسه ونخسه في القلب بما يسول للإنسان من المعاصي، عن أبي زيد نزغت بين القوم إذا أفسدت ما بينهم، وقيل النزغ الازعاج، وأكثر ما يكون عند الغضب، وأصله الازعاج بالحركة إلى الشر، وتقرير الكلام أنه تعالى لما أمره بالعرف فعند ذلك ربما يهيج سفيه ويظهر السفاهة فعند ذلك أمره تعالى بالسكوت عن مقابلته فقال: {وَأَعْرِض عَنِ الجاهلين} ولما كان من المعلوم أن عند إقدام السفيه على السفاهة يهيج الغضب والغيظ ولا يبقى الإنسان على حالة السلامة وعند تلك الحالة يجد الشيطان مجالًا في حمل ذلك الإنسان على ما لا ينبغي، لا جرم بين تعالى ما يجري مجرى العلاج لهذا الغرض فقال: {فاستعذ بالله} والكلام في تفسير الاستعاذة قد سبق في أول الكتاب على الاستقصاء.المسألة الثالثة:احتج الطاعنون في عصمة الأنبياء بهذه الآية وقالوا: لولا أنه يجوز من الرسول الإقدام على المعصية أو الذنب، وإلا لم يقل له {وَإِمَّا يَنَزَغَنَّكَ مِنَ الشيطان نَزْغٌ فاستعذ بالله} والجواب عنه من وجوه: الأول: أن حاصل هذا الكلام أنه تعالى قال له: إن حصل في قلبك من الشيطان نزغ، كما أنه تعالى قال: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزمر: 65] ولم يدل ذلك على أنه أشرك.وقال: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا الِهَةٌ إِلاَّ الله لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: 22] ولم يدل ذلك على أنه حصل فيهما آلهة.الثاني: هب أنا سلمنا أن الشيطان يوسوس للرسول عليه السلام، إلا أن هذا لا يقدح في عصمته، إنما القادح في عصمته لو قبل الرسول وسوسته، والآية لا تدل على ذلك.عن الشعبي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما من إنسان إلا ومعه شيطان» قالوا: وأنت يا رسول الله قال: «وأنا ولكنه أسلم بعون الله، فلقد أتاني فأخذت بحلقه، ولولا دعوة سليمان لأصبح في المسجد طريحًا،» وهذا كالدلالة على أن الشيطان يوسوس إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلاَ نَبِىّ إِلاَّ إِذَا تمنى أَلْقَى الشيطان في أُمْنِيَّتِهِ} [الحج: 52] الثالث: هب أنا سلمنا أن الشيطان يوسوس.وأنه عليه الصلاة والسلام يقبل أثر وسوسته، إلا أنا نخص هذه الحالة بترك الأفضل والأولى.قال عليه الصلاة والسلام: «وإنه ليغان على قلبي وإني لا أستغفر الله في اليوم والليلة سبعين مرة».المسألة الرابعة:الاستعاذة بالله عند هذه الحالة أن يتذكر المرء عظيم نعم الله عليه وشديد عقابه فيدعوه كل واحد من هذين الأمرين إلى الإعراض عن مقتضى الطبع والإقبال على أمر الشرع.المسألة الخامسة:هذا الخطاب وإن خص الله به الرسول إلا أنه تأديب عام لجميع المكلفين لأن الاستعاذة بالله على السبيل الذي ذكرناه لطف مانع من تأثير وساوس الشيطان، ولذلك قال تعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ القرءان فاستعذ بالله مِنَ الشيطان الرجيم * إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ على الذين ءامَنُواْ وعلى رَبّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [النحل: 97، 98] إذا ثبت بالنص أن لهذه الاستعاذة أثرًا في دفع نزع الشيطان، وجبت المواظبة عليه في أكثر الأحوال.المسألة السادسة:قوله: {إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} يدل على أن الاستعاذة باللسان لا تفيد إلا إذا حضر في القلب العلم بمعنى الاستعاذة، فكأنه تعالى قال: اذكر لفظ الاستعاذة بلسانك فإني سميع واستحضر معاني الاستعاذة بعقلك وقلبك فإني عليم بما في ضميرك، وفي الحقيقة القول اللساني بدون المعارف القلبية عديم الفائدة والأثر. اهـ..قال الجصاص: قَوْله تَعَالَى: {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنْ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاَللَّهِ إنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}.قِيلَ فِي نَزْغِ الشَّيْطَانِ إنَّهُ الْإِغْوَاءُ بِالْوَسْوَسَةِ، وَأَكْثَرُ مَا يَكُونُ عِنْدَ الْغَضَبِ وَقِيلَ إنَّ أَصْلَهُ الْإِزْعَاجُ بِالْحَرَكَةِ إلَى الشَّرِّ، وَيُقَالُ: هَذِهِ نَزْغَةٌ مِنْ الشَّيْطَانِ، لِلْخَصْلَةِ الدَّاعِيَةِ إلَيْهِ.فَلَمَّا عَلِمَ اللَّهُ تَعَالَى نَزْغَ الشَّيْطَانِ إيَّانَا إلَى الشَّرِّ عَلِمْنَا كَيْفَ الْخَلَاصُ مِنْ كَيْدِهِ وَشَرِّهِ بِالْفَزَعِ إلَيْهِ وَالِاسْتِعَاذَةِ بِهِ مِنْ نَزْغِ الشَّيْطَانِ وَكَيْدِهِ، وَبَيَّنَ بِالْآيَةِ الَّتِي بَعْدَهَا أَنَّهُ مَتَى لَجَأَ الْعَبْدُ إلَى اللَّهِ وَاسْتَعَاذَ مِنْ نَزْغِ الشَّيْطَانِ حَرَسَهُ مِنْهُ وَقَوَّى بَصِيرَتَهُ بِقَوْلِهِ: {إنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنْ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الطَّيْفُ هُوَ النَّزْغُ.وَقَالَ غَيْرُهُ: {الْوَسْوَسَةُ}.وَهُمَا مُتَقَارِبَانِ وَذَلِكَ يَقْتَضِي أَنَّهُ مَتَى اسْتَعَاذَ بِاَللَّهِ مِنْ شَرِّ الشَّيْطَانِ أَعَاذَهُ مِنْهُ وَازْدَادَ بَصِيرَةً فِي رَدِّ وَسْوَاسِهِ وَالتَّبَاعُدِ مِمَّا دَعَاهُ إلَيْهِ، وَرَآهُ فِي أَخَسِّ مَنْزِلَةٍ وَأَقْبَحِ صُورَةٍ لِمَا يَعْلَمُ مِنْ سُوءِ عَاقِبَتِهِ إنْ وَافَقَهُ وَهَوَّنَ عِنْدَهُ دَوَاعِيَ شَهْوَتِهِ. اهـ.
|